النوع الثاني: وهو جهاد الدفع عن أرض المسلمين: فالأمر فيه أوضح وأجلى إذ لا يشترط له أي شرط إطلاقاً، بل على كل أحد الدفع بما استطاع، فلا يستأذن الولد والده، ولا الزوجة زوجها، ولا الغريم غريمه، وكل هؤلاء أحق بالإذن والطاعة من الإمام، ومع ذلك سقط حقهم في هذه الحال؛ إذ الجهاد فرض عين على الجميع فلا يشترط له إذن إمام فضلاً عن وجوده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى المصرية 4 / 508) : " أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان " وقال أيضاً : " وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليها بلا إذن والد ولا غريم ".
وقال ابن حزم في (المحلى 7 / 292) : " إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثاً لهم ".
وقال الجصاص في أحكامه (4 / 312) : " معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ".
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في (الإقناع 2 / 510) : " الحال الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين".
وهذا هو معنى كونه فرض عين، فلو كان يشترط له شروط صحة، كوجود إمام أو إذنه لما كان فرض عين في حال هجوم العدو على المسلمين، وهو ما لم يقل به أحد من علماء الأمة؛ ولذا قال الماوردي : " فرض الجهاد على الكفاية يتولاه الإمام ما لم يتعين " .
-- أن كتب الفقهاء قد نصت في كتاب الجهاد على شروط وجوبه، وعلى من يجب ومتى يتعين، وليس فيها نص على اشتراط وجود الإمام أو وجود الراية، وقد ثبت في الحديث الصحيح " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل" ، و قد قال العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في بيان بطلان هذا الشرط : " بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟ هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين، والأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر، من ذلك عموم الأمر بالجهاد والترغيب فيه والوعيد في تركه " (الدرر السنية 7/ 97).
وقال صديق حسن خان في (الروضة الندية صفحة 333) عن الجهاد : " هذه فريضة من فرائض الدين، أوجبها الله على عباده من المسلمين، من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص أو عدل أو جور ".
فالجهاد ماض إلى قيام الساعة، سواء وجد إمام أو لم يوجد، وسواء وجدت هناك راية أو لم توجد.
وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كما في الزاد (3 / 309)، وعبد الرحمن بن حسن وغيرهم من الأئمة، بقصة أبي بصير _رضي الله عنه_ وجهاده المشركين بمن معه من المؤمنين، وقطعهم الطريق عليهم، حتى قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ في شأنه:" ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال"، ولم يكن أبو بصير _رضي الله عنه_ تحت ولاية النبي _صلى الله عليه وسلم_ ولا في دار الإسلام، ولم يكن إماماً، ولم تكن معه راية، بل كان يُغِيرُ على المشركين ويقاتلهم ويغنم منهم واستقل بحربهم، ومع ذلك أقره النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأثنى عليه، قال عبد الرحمن بن حسن كما في (الدرر السنية 7 / 97) مستدلاً بهذه القصة : " فهل قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أخطأتم في قتال قريش؛ لأنكم لستم مع إمام؟!! سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله !!" انتهى
أما قتال العدو الكافر إذا دهم أرض المسلمين فليس قتاله قتال فتنة، ولم يقل هذا القول أحد من علماء سلف الأمة، بل الفتنة هي في تركه وعدم مدافعته، بل ليس بعد الشرك بالله أعظم من الصد عن قتال المشركين
قال ابن حزم في (المحلى 7 / 300) : " ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار، وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم ". كما لا شيء أوجب بعد الإيمان بالله من دفع العدو عن أرض الإسلام، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ .