الكِتَـاب : إرثنا الجميل, يكفي أن أقول جميل, لمن عرِفَ جلال الجمال.
أشعار
كأس العالم على الأبواب
الإختبارات على الأبواب
والقراءة متوقفة إلى أجل غير مسمى! أي قراءة قد يتم نشرها الآن هي جريمة. جريمة لأن القارئ غير متفرغ كلياً للقراءة, وحتى لو قرأ, فعقله مشغول بشيء آخر غير القراءة. أجل أبو محمد يشجع الأرجنتين؟! مو بعاقل أبو محمد ميسي. هذا يعني أنه يشجع كبير أدباء الأرجنتين, بورخيس.
نحن غير متفرغين للقراءة حالياً .. وقد تمر أشهر دون قراءة كتاب واحد. لو كان الجاحظ بيننا الآن ماذا سيفعل والمسئوليات تُلقى عليه من كل حدب وصوب ولا يستطيع قراءة كتاب واحد؟ أتوقع أن يرتقي أكبر عمارة في الرياض, ويهدد بالسقوط ما لم تفرش الأرض كتب حتى يسقط عليها ويغوص في أعماقها. هذا هو عاشق الكتاب, عاشق متطرف حد الجنون, الجاحظ غرق في بحر الكتاب ولم يخرج منه. بل اشتهر عنه أنه لم يكن يكتفي بقراءة كتابين في اليوم. والأدهى من ذلك أنه يبيت أحياناً في الدكاكين للقراءة والنظر.
أحاول تخيل المنظر, نهاية الجاحظ, كيف مات والكتب تتساقط عليه ولا يستطيع الحراك بسبب المرض. لو كان لي من الأمر شيئاً لطلبت من الجاحظ - من أجل أن يموت مطمئن البال - أن يهدي كل كتبه, كل كتاب نفيس يحتفظ به إلى أصدقاءه ومحبيه .. أن يدعو أصدقاءه وأحبائه للمكتبة, ولا يخرج أي واحد منهم إلا ومعه أندر وأنفس ما قرأ الجاحظ . أعرف أن هذا الأمر محض جنون, وقد يكون عند البعض خيالي وغير قابل للتطبيق .. وكيف سيضحي عاشق الكتب بأغلى ما يملك؟ هناك من قطع المسافات تلو المسافات في سبيل كتاب؟ كيف يضحي به؟ وهل أستطيع أنا مثلاً أن أضحي بمؤلفات دستويفسكي الروائية والأدبية والنقدية. لا أريد أن أبالغ أو أضع نفسي في مرتبة رفعية, ولكن العشق هو الذي قادني إلى ذلك: لا أعتقد بأن أحداً ما في المنطقة العربية يمتلك كل مؤلفات دستويفسكي بالإضافة ليومياته ورسائله والنقد والمقالات والسير الذاتية التي كتبت عنه أكثر مني. حالة جنون مثل حالة شيخنا الجاحظ قادتني إلى هذه المؤلفات, هل أنا الذي أنصح الجاحظ بالتخلي عن مؤلفاته في سبيل عيشة هنية أن أضحي بتلك المؤلفات التي هي من أنفس ما أملك؟
سأجيب عن ذلك نهاية هذا الموضوع ولكن هناك رأي أود طرحه قبل أن أجيب. الإنسان كائن إجتماعي بطبعه, قد يحب الإختلاء بنفسه والعيش لحظات سعيدة مع الكتاب: يقرأ رواية وتاريخ وفلسفة وفكر تبعده عن المشاغل اليومية التي لا تنتهي, ولكن لا يمكن أن ينسلخ من طبيعته الإجتماعية, أن يعيش معزولاً : لا يوجد أحد يأنس به ويحاوره ويتناقش معه. الكتاب ليس مسؤولاً بل الإنسان نفسه هو المسؤول عن ذلك, عن طريق قطع جميع أواصر الصداقة مع نظرائه من الجنسين.
الأغلب لديه صداقات متعددة, قد تكون هذا الصداقة منشأها العمل أو الجامعة أو الأقارب .. أجمل صداقة هي التي يكون الكتاب هو الطرف الأساس فيها. لا يهم العمل ولا الدراسة ولا الأقارب, المهم هو الكتاب: الصداقة القائمة بين اثنين يرتبطون بالكتب مرتبطين روحياً برباط مقدس متين لا يمكن أن يسقط في يوماً ما. لقد ندمت مرات عديدة من أجل أصدقاء لا يستحقون مثقال ذرة من احترام, ولكن - وحتى الآن وطوال أكثر من 6 سنوات - لم أندم على علاقة صديق كان يربطني به صلة رحم قوية, الكتاب.
تعرفت على الكثير هنا في مكتبة الإقلاع وخارج الإقلاع. كان الكتاب هو الوسيط بيننا, وسيط يجمعنا ويقربنا مع بعض رغم المسافات الطواال .. حتى لا يكون الموضوع شخصي سأتحدث بشكل عام دون ذكر أسماء. أحد الأصدقاء - كلمة صديق هنا ستعبر عن كلا الجنسين الذكر والأنثى - تعرفت عليه من خلال عشقنا الأبدي, الكتاب, وهذه العلاقة بالذات كانت أجمل علاقة قمت بها في حياتي. نجتمع ساعات وساعات نعيد استحضار ما قرأنا, عن ما نعرف وعن مالا نعرف .. نحلل الأعمال الأدبية تحليلاً عنيفاً, نشيد بها, نلعنها, يصيبنا الذهول عندما نحضر تلك الرائعة التي قرأناها سابقاً .. نعيد اكشاف الأحداث من جديد ونبحث عن الجديد والممتع. يمتد الحوار إلى مختلف أنواع الفنون والآداب ونجد أنفسنا في الأخير ننتمي لهذا العالم الواسع الذي نحن جزء منه, إذا أردنا أن تدوم صداقتنا مع أصدقائنا فليكن الرباط هو الكتاب, وستجد تلك العلاقة أجمل علاقة قد قمت بها في حياتك.
صديق آخر تعرفت عليه .. مع الاسف لم أقابله إلا بعد سنتين من معرفتي به لأنه من منطقة أخرى - ترى ما أقصد القصيم أبداً - .. طريقة معرفتي به جداً مضحكة وغريبة .. كان يبحث عن كتاب .. أرسلت له رسالة أخبره فيها بأني على استعداد لإرسال الكتاب.وأرسلت له الكتاب وكنت سعيداً بأني أقمت علاقة مع شخص لا أعرفه عن طريق الكتاب. بعد هذه الهدية الغريبة أقمت اتصالات معه, بين فترة وأخرى نتحدث ونتكلم عن الأدب والسينما .. على فكرة .. صديقي هذا من النوع الذي يتقن الفصحى وكأنه يقتبس من حلل لسان العرب - ماشاء الله - .. ولكن ما إن تتحدث إليه حتى تجد اللغة البسيطة التي تدخل قلبك بلا إستئذان, بمعنى أصح اللهجة القصيمية الدارجة المحببة عند البعض. في أحد الأيام أهداني هذه الصديق كتاباً ووقعت في مأزق بسبب هذا الكتاب الهدية. تصلني إهداءات كتب, بل وكتب نادرة ولم أتعرض لهذا المأزق. أغلب هذه الكتب وصلتني بنفس الطريقة التي أرسل فيها هدية كتاب. أي الكتاب مغلف في ظرف بريدي, ومتى ما أردت القراءة لا يستلزم منك إلا تمزيق الظرف البريدي وقراءة الكتاب. ولكن مع إهداء هذا الصديق حدث ما لم يكن في الحسبان!
من هذا الذي يمتلك قلباً عنيفاً, قادر على تمزيق هذا الجمال من أجل قراءة كتاب قد يتوفر في يوم من الأيام, وبكثره ؟ لم تعد قراءة الرواية تهمني, بل أصبحت مهتماً بالحفاظ على هذه الهدية, وبكمية الجمال التي تشع منها. تركت هذه الهدية أكثر من أسبوعين على سطح مكتبتي, ولازلت أفكر هل أقرأ الرواية وأمزق هذا الجمال بيدي, أو أُبقي الهدية كما هي للأبد . لا يوجد سبب يمنعني من قراءة هذا الكتاب إلا تحطيم هذا الجمال بيدي. وهو ما لا أريده أن يغيب عن ناظري. أدركت تماماً كما أدرك مكسيم غوركي, أنه لا يجوز مس الورد حتى يزهر كلياً , وإلا فهو لن يعبق بالشذا الجميل . حاولت بأقصى استطاعاتي إخراج الكتاب دون التسبب في تمزيق هذا الجمال. وفي الأخير مزقت هذا الجمال وقرأت الكتاب.
أقسمت بيني وبين نفسي أن لا أهدي كتاباً بمثل هذه الطريقة .. لا أريد أن أوقع أحداً في مأزق بسبب هذا الشيء الجميل الذي تعب فيه المُهديِ ليصل إلى المهدى إليه .. ولكن الآن, قمت بتغيير هذا القسم - وإن شاء الله ما فيه كفارة - سوف أهدي بمثل ما أُهدي إليّ, وبنفس الطريقة.
صديق ثالث تعرفت عليه من خلال الكتاب. هذا الصديق مكتباتي من الطراز الرفيع والنادر, بل لم أجد بمثل ذكائه وحرفيته .. كل ما عليك فعله حين تذهب لزيارة إحدى المكتبات أن تأخذه معك .. وأطلب منه أن يُخرج لك أنفس ما فيه المكتبة. صدقوني: سوف يستخرج من المكتبة كتباًَ لم تروها بل ولا يعرفها صاحب المكتبة نفسه. علاقة هذا الصديق بالكتاب علاقة جميلة. أصبح الكتاب الذي يختبئ بين الرفوف يناديه أن تعال خذني إليك, اذهب بي إلى مكتبتك هرباً من نيران الانتظار. هذا الصديق نادر الوجود, مرت أيام في إحدى المناسبات الثقافية لم أستطع الحضور حتى أحصل على كتب أريدها. كان يرسل لي بأن لا تقلق. هذا الكتاب أخذته لك, هل تريد شيئاً آخر! في مثل هذه المواقف لا أستطيع الرد ولا الشكر .. بل لا أبالغ أني أجد نفسي في موقف لا أحسد عليه. كيف يمكن أن أرد مثل هذا الجميل الذتي تتلقاه, بطريقة تفرح بها صاحبك المكتباتي. أنا لا أعرف كيف أرد الجميل, ولكن سأجدها في يوماً ما.
صديق آخر قل أن يجود الزمان بمثله, هو أحد اثنين لهما فضل كبير في تطور وتحسين مستوى قراءتي. هذا الصديق كنت أتابعه لأكثر من سنتين دون أن أتقاطع معه لدقيقة واحدة. كان يمتعني ويشبع فضولي في قراءاته وكتاباته. ولو تفرغ للأدب لأصبح أديباً يشار إليه بالبنان, ولكن واجبه الإنساني يحتم عليه قضاء وقتاً طويل في مجال آخر بعيداً عن الكتاب وقريباً منه كذلك. وكان هو يتابعني لمدة سنتين كذلك دون أن يتقاطع أحدنا الآخر. حين تقاطعت معه ذات يوم كنت أعرفه جيداً, وكان يعرفني جيداً. ولو كان الوقت والمكان يسمح لنا بذلك لجلسنا طويلاً نتحدث عن أشياء هي التي عرفتنا ببعض دون أن نتقابل لسنتين. كنت عازماً ذات مرة أن أهدي إليه إحدى الروائع التي أعشقها وأحبها بشكل هائل. كنت سأزيد من عندي ولكن طلبت رأيه فيما يريد. أخبرني أنه يريد كتاباً ما. هذا الكتاب الثاني الذي طلبه هذا الصديق أصبح غير متوفر في المكتبات بسبب قرار من الدار الناشرة بإيقاف إصدار نسخ من هذا الكتاب. والكتاب متوفر لدي: هل أهدي هذا الكتاب النادر الوجود الآن إلى هذا الصديق, أم انتظر حتى تتوفر نسخ منه؟ لم أفكر طويلاً, بل ولم أفكر على الإطلاق. أخذت الكتاب من مكتبتي وأرسلته له. لو لم أعرف هذا الصديق لما عرفت هذا الكتاب بالأصل, ليس الأمر مجرد شكر على تعريفي مثلاً بتلك الآداب, بل أهديته لأن صديق قل ما يجود الزمان بمثله, ولا يوجد أجمل من أن تهديه شيء هو رابطكم الحقيقي: الكتاب.