::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: - عرض مشاركة واحدة - حديث الشيــــــخ !
عرض مشاركة واحدة
قديم 10-07-2005, 04:36 PM   #6
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجـــزء الثاني )

المفتاح العجيب

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
كان أبو محمود أسرع القوم إليها ، فخطفها وأخذ يلوح بها وهو يضحك وينظر إلى حبيب بن مسعود ويقول :
- هذا هو صاحبك قد وقع .
وقبل أن يقرأها ، وبخفة متناهية أدهشت الجميع ، خطفتها الجارية من يده ، وجذبت عربيدًا وذهبت إلى غرفة مجاورة .
قال أبو الحسن الورَّاق : واستحثت الجارية الخادم وهي تقول :
- أخبرني يا عربيد .. أخبرني بكل ما رأيت .
ونظر إليها ببرود ، وكان قد عاد بغير الوجه الذي ذهب به ، وكانت الجارية متلهِّفة لسماع حديثه ، فهزِّته قائلة :
- ماذا دهاك يا عربيد .. تكلم ؟
فأشاح الخادم بوجهه إلى ناحية أخرى وقال :
- هل أنت جادة في هذا الأمر يا سيدتي ؟
وهتفت بحماس :
- ألف دينار .. ألف دينار يا عربيد ..
فهزَّ عربيد رأسه وهو يتلفت إليها وقال :
- كلا يا سيدتي .. لا أظن أن الدنانير هي كل ما تبغين .
فقطَّبت ما بين حاجبَيْها ، ونظرت إليه بعينيها النجلاوين ، وقالت : تستنطقه :
- وما تظن يا عربيد ؟
فتنهَّد وهو يرجع خطوة إلى الوراء ، وقد وقع الضوء القليل الذي ينتشر من ضوء القنديل على صفحة خده الأيمن ، فبدا بلون البن الغامق ، ثم رفع يده فحكَّ رأسه ثم قال :
- لا أدري .. ولكن ..
فضربت الأرض برجلها ، وقد صعد الدم إلى وجْنَتيْها وقالت :
- ولكن ماذا ..؟
وأجاب بصوت هادئ عميق النبرات :
- يا سيدتي .. إن الوصول إلى القمر ، لأهون ألف مرة من الوصول إلى يسار ..
ثقي يا سيدتي أنه لم تر عيني مثله بين الزهاد .. لا هنا ولا هناك . وأشار بيده إلى الشرق البعيد ، وبقي لحظات مشيرًا بيده ، واقفًا كالتمثال ، مثبتًا بصره على الناحية التي أشار إليها .
فأطرقت الجارية ، وتغير لونها ، وقالت بصوت انتزعته من بين آلامها :
- بالله عليك يا عربيد .. لا تذكرنا بتلك الأيام .
ثم تنهَّدت تنهَّدة عميقة وقالت :
- إننا في حاجة إلى النقود يا عربيد .
فخفض يده ، وعاد إلى وقفته الأولى ، وقد شعر أنه استطاع أن يؤثر عليها .
فتبسَّمت ، ونظرت إليه بلطف ، وقد لمعت عيناها على ضوء القنديل الذي يتسلَّط عليها .. وقالت بصوت هادئ خافت ودود :
- والآن .. حدثني يا عربيد .. أخبرني بكل شيء .. بكل ما رأيت وسمعت . قال ، وقد انقاد إلى لهجتها :
- رأيت نازك الرومي ، خادم الشيخ القاضي محمد صالح ، يهم بدخول الدار ، فاستوقفته ، وأخبرته بأني أريد أن أقابل يسارًا على انفراد . فأخذ بيدي إلى غرفة قريبة من الديوان .. وانتظرت حتى أقبل يسار . متوسط القامة ، أزهر اللون ، تبرق أساريره بنور جذَّاب ، نحيفًا ، تجلله المهابة ، ويعلوه الوقار ، يحس بروعته الناظر إليه .. أقسم لك يا سيدتي ، إنني لم أندم في حياتي مثل ندمي هذه الليلة . ندمت أنني قدمت في مثل هذه المهمة وعلى هذا الرجل الذي .. الذي يعيش في هذه الدنيا وروحه معلقة بالآخرة .
إن ليس من ذلك النوع الذي تعرفينه . لم ترعيني مثله قط .. لقد تمنَّيت من كل قلبي أو لوعُدت أدراجي ، ولم أفاتحه ..
وسكت عربيد ، وكأنه يريد أن يستحضر كل لحظة عاشها مع يسار .. واهتزت ذبالة القنديل على نسمة باردة ، تسللت من شق الباب .. وتحرك ظل الجارية على الجدار .. وعد عربيد يتحدث بصوت خافت مؤثِّر :
- لقد ارتفع هذا الرجل بروحه عن الأرض ، وأخذ بسبب إلى السماء . فكان فيه من السماء معنى السمو والزكاء والنقاء .
كانت الجارية تصغي إليه باهتمام ، وقد سحرها بوصفه ، وملك عليها مشاعرها . حتى تخيَّلته مَلَكًا في صورة إنسان .
ومضت تستحثه :
- وماذا بعد .. تكلم يا عربيد ..
قال :
- بدأني بالسلام .. ثم وقف ينظر إلي ، فشعرت كأن نظراته تغوص في أعماقي ، وتكشف المكنون في صدري .. ثم قال :
- ما اسمك يا رجل ؟
قلت :
- عربيد .
فلم يعجبه هذا الاسم ، ونظر إليَّ ساعة ثم قال :
- لا ينبغي أن يكون هذا اسمك .
ثم أضاف بعد قليل :
- بل أنت مريد ..
أتدري من هو مريد ؟
ولم أجب ، مضى يقول :
- المريد هو الذي يريد الوصول إلى الله ، بقلب سليم .
اتق الله يا مريد واجتنب المعاصي .
وعاد عربيد إلى السكوت .. ولم يدر ما كان يعتمل في صدر الجارية التي استبدَّ بها الشوق إلى معرفة المزيد عن يسار حتى نَسِيَت نفسها ، ونَسِيَت الضيوف الذين كانوا ينتظرون عودتها .. وانحنى عربيد قليلاً كأنه يريد أن يلتقط شيئًا من الأرض .. ولكنه عاد فاعتدل .
وهزَّته الجارية . وقالت بصبرٍ نافد :
- تكلم . تكلم يا عربيد .. لا تسكت .
فنظر إليها نظرة صارمة وقال :
- أرى أن تتركي هذا الأمر .
- أتركه ؟!
قالتها بدهشة وتعجب ..
- أبَعْدَ كل ما ذكرته أتركه ؟
كيف أترك أمرًا بدأته ؟ سرت فيه خطوات ..
فلما رأى إصرارها ، عاد يروي ما حدث ، دون أن يعقب على كلامها الأخير :
- رأيتني أمد يدي بالرقعة ، بتردد ، وتخاذل ، وخجل .. فتناولها ، وألقى عليها نظرة .. فنغيَّر لونه ، وصعدت حرارة الغضب إلى رأسه وشعرت بأني ركبت مركبًا صغيرًا ، وتمنيت في تلك الساعة لو انشقت الأرض وابتلعتني . ولكني أسرعت أقول له ، قبل أن أسمع منه ما يؤلمني :
- إنها تريد أن تتحدث إليك بمشكلتها يا سيدي ..
إنها لا تريد أن يطَّلِع عليها غيرك .
فرفع رأسه ، وقد سُرِّيَ عنه بعض ما به وقال :
- لتكتب مشكلتها .
ثم وقَّع بكلمة واحدة : اكتبيها .
ألقى الرقعة ، وعاد من حيث أتى .
قال أبو الحسن الورَّاق : فصفقت الجارية بيدها ، ودارت حول نفسها طربًا وهي تقول :
- لقد وقع الطائر في الفخ .
فهزَّ عربيد رأسه وقال :
- ألم يقل لك حبيب بن مسعود ، إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد ؟!
فقهقهت الجارية ولقد لمع في فمها صفان مثل الحب الجمان ، ودفعت الخادم في صدره وهي تقول :
- إنني أملك المفتاح الأستاذ الذي تتساقط أمامه جميع الأقفال ..
ثم أشارت بيدها إلى صدرها وقالت :
- أنا ..
وفتحت الباب دون أن تستدير وأضافت :
إن جميع الأقفال سوف تتساقط أمام المفتاح الساحر ، المفتاح العجيب .. المرأة !!
وقبل أن تعود إلى الغرفة الأخرى همست :
- سأدعوك من هذه الساعة .. ( مُريد ) .
قال أبو الحسن الورَّاق : واستمر القوم في حديثٍ وضحك وانشراح حتى أصبح الصباح ، وارتفع صوت المؤذن من المسجد القريب يدعو .. حي على الفلاح .
فتنهَّد حبيب بن مسعود وقال :
- هذه ليلة من عمرنا خسرناها .
قال : وخرج القوم فردًا فردًا ، وكان خروجهم بعد صلاة الفجر بقليل ، وسلك كل منهم طريقًا غير الذي سلكه صاحبه .



يتبع ...


 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس